في ساعة متأخرة من الليل، أو ربما كان الوقت فجراً،
سمعنا طرقاً عنيفاً على باب الحديقة، استيقظنا جميعاً، كانت والدتي أولنا، لكن
عندما خرجنا من غرفنا، وجدنا شقيقي الأكبر تميم مرتدياً ثيابه وكأنه لم يخلعها
ليلاً، كان وجهه أبيضاً متجهماً مرعوباً، قال لوالدتي: أتوا لي أنا ....إنطلقت
والدتي مسرعة وفتحت الباب، أذكر أن أربعة عساكر يرتدون خوذات عسكرية دخلوا إلى
داخل المنزل،طلبوا من تميم مرافقتهم دون أن يسألوه عن شخصه أو إسمه، كانوا يدرون.
سمعنا صوت سيارة كبيرة تنطلق تلك الليلة ، لم تترك لنا
والدتي نحن أطفال مجال للتساؤل، بسرعة طلبت من الأطفال الصغار العودة إلى السرير
ونحن الأكبر أنا وشقيقي أنس (ثمان سنوات)مساعدتها، لبسنا معاطفنا فقد كان البرد
شديداً، نزلنا إلى الحديقة حيث وضعت (القصعة الكبيرة التي يغسلون فيها الثياب) ملأتها
بالماء ثم صعدت إلى غرفة تميم وأخذت تحمل أوراقاً وتطلب منا حرقها ثم وضعها في
الماء حتى لا تتبعثر، وعندما انتهينا في ساعة متقدمة من النهار رمت كل ذلك في
الحديقة ووضعت فوقه التراب، كانت مثل لعبة مسلية لكن كانت هناك حالة من الخوف ترسلها
ذبذبات سلبية تصلنا من والدتي.
بعد ما أكملنا كفي الصباح، لبست والدتي ملابسها وطلبت
مني الإهتمام بأخوتي الذين لم يذهبوا إلى المدرسة ذلك اليوم لإحتياج الوالدة
للسيارة والسائق، دخلت إلى غرفتها ومعها
الهاتف، سمعتها تتكلم مع العديد من الأشخاص، ومن الواضح أنهم ليسوا تونسيون لأنها
كانت تتكلم بلهجتها السورية دون أن تحاول إضافة بعض الكلمات التونسية كعادتها .
أخبرتنا أنهم ألقوا القبض على تميم لأسباب سياسية وكأنها
تبرر ذلك بأنه ليس مجرماً، لم يفهم أنس معنى سياسية لكنه سألها : ( هل سيدخلونه السجن؟
هل سيبقى طويلاً؟) أجابت لا أعتقد، خرجت وعادت متأخرة ،وسمعتها تتصل بزوجة عمر
البنبلي الذي كان من أصدقاء أهلي منذ إقامته في سوريا والذي أصبح يتردد يومياً على
المنزل منذ وفاة والدي قبل ستة شهور، بعد المكالمة إنهارت ولا بد أن زوجة البنبلي
أخبرتها أنهم ألقوا القبض على زوجها أيضاً.
في تلك الليلة لم يغمض لوالدتي جفن، في الغد خرجت باكراً
ولم تعد إلا في ساعة متأخرة من الليل، كانت معينة المنزل هي التي تتدبر أمورنا
خاصة أنه لم يكن هناك مجالاً للذهاب إلى المدرسة، كان الجيران وبعض الأصدقاء يأتون
لرفقة والدتي التي لم تشرح لهم سبب الإيقاف، كان تميم دمث الأخلاق بالغ الأدب
واللطف ومن الصعب تصوره في دور مجرم، لكن بعد أن شاع الخبر لم يعد يزورنا أحد.
بعد أسبوع أعلنت
وسائل الإعلام عن خبر إلقاء القبض على " مجرمين" أرادوا إغتيال المجاهد
الأكبر، وقلب النظام، مع كثير من التهويل والمبالغة وذكر أسماء يعرفها الشعب لها
تاريخ في المكافحة ضد الاستعمار لكن كانوا يدعونها بالفلاقة، لم يفهم الشعب، ولم
يتوقع أن تكون هناك إمكانية قلب النظام، خاصة عندما ذكرت الصحف أن هناك
"عسكريين في المؤامرة" هل أصبحت تونس مثل سوريا والعراق؟ إنقلابات دموية
؟ كان بورقيبة لا يزال" المجاهد الأكبر" بالنسبة للأغلبية، رغم أن أسباب
محاولة الانقلاب إرتكزت خاصة على أسباب إجتماعية وسياسية: كاستفحال الحكم الفردي،
وحرب بنزرت، وتقلص الحريات، وغلاء المعيشة، والمشروع الإشتراكي( التعاضد) والعديد
من المشاكل الإجتماعية التي لم تتفاقم في السنوات الأولى بما فيه الكفاية لتبرير
أسباب محاولة الإنقلاب، كنا نستمع كل ليلة إلى الراديو لتقصي الأخبار ولم تعد
والدتي تجري إتصالات أو تخرج كثيراً، علمت بعد سنوات أنها عندما ذهبت لمقابلة
علالة العويتي مستشار بورقيبة وصديق والدي لتعلمه بتوقيف تميم ، أنه غضب عندما علم
بذلك و حاول الإتصال وعندما سمع الرد على الهاتف ، إنهار على كرسيه وطلب منها
الرحيل ، لم يكن على علم ، ولم يتصور هول الخبر، وفي أحد الليالي أتت الشرطة
العسكرية وألقت القبض على والدتي(كانت على علم بالتخطيط للإنقلاب) ثم خاصة تحمل
على كاهلها جريمة جنسيتها السورية وإنتمائها السياسي ( والدي كان من الحزب القديم
ورفيق عبد العزيز الثعالبي ومحي الدين القليبي) ثم كانت جل اللقاءات والإجتماعات
في منزلنا بحضور عمر البنبلي " رأس الفتنة كما سماه بورقيبة)
أعلنت الصحف أنه ستكون هناك محاكمة قريباً، وإنطلقت
والدتي في الإتصالات بأبرز المحامين ورجال القانون، لكنهم أعلموها أن لا حق لهم في
الدفاع، وأن وزارة الدفاع والعدل سخرت مجموعة من المحامين لذلك ، وحسب ما روى
المساجين بعد خروجهم من السجن، أنه لم تقع زيارتهم من هؤلاء " المسخرون"
إلا مرة واحدة لم يروهم بعدها أبداً،
لم تدم المحاكمة طويلاً، وصدرت الأحكام بالإعدام لعشرة
من المشاركين، و أحكام تتراوح بين مؤبد وعشرين سنة وعشر سنوات، لم يسمح لهم لا بالاستئناف
ولا بالتعقيب،ثم انقطعت أخبارهم لمدة سبع سنوات، اعتقدت خلالها العائلات أن
المساجين ماتوا أو أعدموا خلسة، لم يتسرب أي خبر عن موقعهم أو مكانهم أو حياتهم،
وفجأة وصلت رسالة من شقيقي تميم تعلمنا أنه على قيد الحياة في سجن برج الرومي
ببنزرت وأنه يمكننا مراسلته، وبدأت مراسلات تماماً مثل روايات سولجيتسين أو هنري
ترويا ، حملت بعض الأمل وبعض السعادة، فالرسائل تحمل أحلاماً تتجاوز الواقع
الأليم.
دامت المراسلات فترة ثم أرسل لنا تميم عن إمكانية
الزيارة، كانت فرحة كبيرة ... مع الأسف لم تشاركنا والدتنا تلك الفرحة، فقد أبعدت
لسوريا بعد الحكم ومنعت من دخول تونس نهائياً،
وبدأت الزيارات مرة في الشهر إلى " برج الرومي المشئوم
، ذلك المكان الرهيب الذي يريدون أن يجعلوا منه متحفاً...
ورغم السعادة والفرحة أننا سنتمتع بمقابلة تميم مرة كل
شهر، بقيت فترة زيارات برج الرومي من أسود ذكريات حياتي.
اليوم هناك جهود لتغيير المنظومة الأمنية، إعادة تكوين
حراس السجون، كل السجون تتشابه وكل الحراس يتشابهون، لماذا يتشابهون؟ كيف يمكن أن
يصبح لديهم تلك القدرة الجبارة على القسوة والشماتة ومحاولة إذلال
السجناء
وأهاليهم؟ ها نحن اليوم ونظرة إلى الماضي... التسامح ممكن، الغفران أيضاً، لكن
النسيان صعب.
رشأ التونسي
2 commentaires:
je compatis sincèrement à votre douleur , je sais que les représailles d'après 62 ne furent pas tendres , votre frère a fait de la prison , d'autres ont subi un sort plus atroce encore surtout lorsque le fait même de restituer leur corps à leurs proches n'a pas été fait ! cependant , et pour être clair et honnête avec vous , je suis un bourguibiste dans l’âme, l’attentat de 62 fut une grave erreur , aux dires de la majorité des historiens , la Tunisie n'était pas une dictature , certes ce n'était pas une démocratie non plus , mais elle était en voie de le devenir , peut être du moins , un autre point la politique des coopératives qui a débuté en 62 a eu un effet plutôt positif sur l'économie et cela c'est la banque mondiale qui l'avait dit , Il reste l'épineux point de la bataille de bizerte , on reproche à Bourguiba ce que Hô-Chi-Minh avait entreprit lors de la bataille de Dien Bien Phu , malgré la victoire , les pertes furent lourdes !! sans me faire passer pour le détective que je ne le suis pas mais le fait que votre mère ordonne de brûler des papiers et de suite appelle des contacts syriens me parait un peu louche !! Tout ça pour dire que si rien ne justifie la réaction de l'état face à cette tentative , rien ne justifie son existence non plus , d'autant plus et soyons honnêtes avec nous mêmes , les yousseiffistes n'avaient pas une âme de démocrates non plus c'est pour cela déstabiliser un pays qui est en train de créer ses institutions fut , non pas une erreur , mais une grave faute dont il faut se repentir !
Mr. Med Chekib, je crois qu'il vous manque quelques éléments de compréhension de ce témoignage, qui a été écrit par ma mère pour la journée d'hommage aux disparus de 1962. D'abord, parce que la dame qui brûle les documents, c'est ma grand-mère, et si elle parle à des Syriens, c'est parce qu'elle est syrienne et que mon grand-père s'est exilé à Damas où il milita dans le bureau du maghreb arabe, que rejoignit Bourguiba. Pour ce qui du youssefisme, sachez que les membres du groupe du complot de 1962 ne furent pas forcément tous youssefistes. Mon oncle était le plus jeune d'entre eux. Ils étaient, je crois, lus opposés aux idées de Bourguiba, que ligués contre la construction d'un Etat. Et, s'il fut moderniste, Bourguiba ne fut pas en revanche, un démocrate comme vous le dites. On en est encore très loin, même aujourd'hui. Que cela ait été une faute, surement, c'est ce que ma famille avait pensé aussi. Quant au repentir, vu qu'ils sont presque tous morts, il faut aujourd'hui que ce soit nous qui leur pardonnions.
Enregistrer un commentaire