لم يعد من الممكن إخفاء أيّ شيء لذلك تناقلت الشّبكات الاجتماعيّة خبر منعي من أداء واجبي المهني بصفتي صحفيّة بإذاعة تونس الدّوليّة. كان ذلك بمثابة اللّغز بالنّسبة إلى المعلّقين في الفايسبوك وتويتر بالخصوص. ولكنّهم فهموا بحدس سليم أنّ في المسألة خطرًا مّا على الإعلام والانتقال الدّيمقراطي بما يتجاوز شخصي المتواضع. قد لا أكون أوّل من يتعرّض إلى مثل هذا المنع ولكنّني اكتشفت ، وربّ ضارّة نافعة ، أنّ المتابعين لبرنامجي "كافي نوار" والمعجبين به أكثر ممّا كنت أتصوّر. على الأقلّ هذه نقطة ضوء في لوحة سوداء سأعرض ملامح منها في ما سيأتي.
وأحبّ أن أعلّق بإيجاز على نوعيّة الرّدود والإجابات المقدَّمة حول المسألة من قبل السيدة دنية الشاوش مديرة الإذاعة الدّولية ذات التّجربة الطّويلة (ما يناهز الثّلاثين عامًا في التنشيط والإعلام الموظَّف لخدمة الدكتاتوريّة). فيبدو أنّ الآثار التي يخلّفها الخوف من الدكتاتور عميقة جدًّا متجذّرة على نحو يصعب اِجتثاثه بالنّسبة إلى من لا يملك المسافة النقديّة الكافية حتى يتطهّر من أمراض الإعلام الموجَّه فيعيد تأهيل نفسه بنقد ذّاتي صادق لتحقيق النّقلة الإعلاميّة المرجوّة.
فكلّ تصريحات السيدة المديرة لصحيفة "لوطون" (يوم 10/07/2012 ص4) وموقع كابيتاليس (بتاريخ 10/07/2012) تدلّ بوضوح على أنّها لم تفهم أنّ الأمورَ تتجاوز صراع الدِّيَكَة والدّفاع عن المواقع الإداريّة والتّحصّن بالنّرجسيّات الفارغة. فما معنى أن تتّهمَ مديرةٌ صُحُفيًّا بأنّه لا يشتغل 36 ساعة أسبوعيًّا في مكتبه؟ فمتى كان الصّحفي بعيدًا عن موقع الحدث والالتقاء بالناس؟ ما معنى أن تتّهمَ مديرة، وهي مسؤولة على التأطير، صحفيًّا بأنّه منحاز ؟ فأين اجتماعات التّحرير وآليات التّعديل الذّاتي عبر الحوار والنّقد والنّقد الذّاتي خصوصًا في هذه المرحلة الانتقاليّة ؟ ما معنى الحديث عن منعي من الدّخول بسببِ فتحِ تحقيقٍ في مسألةٍ مَّا ويبدو أنّه تحقيق سريّ تحقيق مزعوم إذلم يقع اِستجواب الصّحفي المعني بالأمر ولم تطلب منه التّوضيحات اللاّزم؟
إنّنا نتفهّم حساسية الموضوع لِمَنْ لا يعرف أنّ "الكراسي" متحرّكة قد يسقط منها المرء في أيّ حين. ولكنّنا لا نفهم السّقوطَ الاخلاقيّ الذي يبرّر التّسلّط والتّعسّف ضدّ الصّحفيّين حتّى وإن كنا نختلف معهم فكأنّ الدّكتاتور لم يفرّ ، أقصد دكتاتور الإعلام الذي يعرفه الجميع وكأنّنا أنجزنا انتقالنا الإعلامي وبنينا مؤسّسات التّعديل الذّاتي للعمل الصّحفي ولمْ يتبقَّ لنا إلاّ أن نطبّقَ القانون : القانون المنبني على حقوق الصّحفيين وحرّيتهم في التّعبير بمهنيّة ونزاهة. غير أنّ الثّابت أنّ عقل السيدة المديرة مازال يشتغل وفق قوانين العهد البائد ولم تتخلّص بعد من آثار العبوديّة الإعلاميّة وليست مستعدّة لاستنشاق نسائم الحرّيّة والتّصرّف بمقتضاها.
وليكن واضحًا للجميع. لستُ أشتكي من شيء شخصيٍّ. فالفضاء الإعلاميّ اليوم متعدّد يحتاج إلى عديد الصّحافيين وفرص العمل كثيرة ولست أخشى البطالة خصوصًا أنّني أحمل سيرة ذاتيّة ثريّة وأمتلك ، بشهادة السّيدة المديرة التي لم تتخلّص بعدُ من ذهنيّة خادم الدّكتاتوريّة ، "ريشة جميلة". وليكن واضحًا أيضا أنّ ما سأعرضه إنّما هو أدلّة على أنّ مسار الاِنتقال من "إعلامِ الخضوع " و"صحافة العارِ" إلى إعلام الالتزام بالحرّية وشروطها وصحافة الشّرف وأخلاقيّات المهنة ما يزال مسارًا عرضة للانتكاسِ.
ما الذي وقع بالضّبط ؟
يوم 25 جوان 2012 كان الفنّان بنديرمان (بيرم كيلاني) ضيفًا على حصّة "كافي نوار". وتعتبر محاورة بنديرمان عمليّة صعبة وممتعة في آنٍ واحدٍ فقد سبق لي أنِ اِستضفتُهُ في حصّةٍ فجمع بين عمق الآراء وخفّة الرّوح والدُّعابة والسّخريّة المرّة. إنّه يجمع صفة اِبن الشّعب و"الحومة" وصفة المثقّف والفنّان الذي لا تعرفه كيف يُبَاغِتُكَ.
وكانت المباغتة. فقد سَخِرَ من نيّةِ إدارة إذاعة تونس الدّوليّة تغيير عنوان حصّة الزّميلة نجوى زهير "شكولا شو"في رمضان. وكان قد قرأ على صفحاتِ الفايسبوك ما نشرته الزّميلة من اِحتجاجٍ على ذلك بتعلّةِ أنّ شهرَ الصّيامِ على الأبواب ومثل هذا العنوان قد يثير شهيّة السّامعينَ. وهو أمرٌ أيضًا ذكرته ، والحقُّ يُقالُ ، السيدة المديرة بالنّسبة إلى "كافي نوار" في اِجتماع بحضور السيد المدير العام ورئيسة تحرير قسم الأخبار دعيت إليه صحبة زميلتي نجوى زهير.
وقد كانت المعلومة التي ذكرها بنديرمان وتناقلَتْها صفحات الفايسبوك صحيحة. ومرّت سخريّة بنديرمان بسلام لأنّ جلّ المستمعين لم يكونوا على علمٍ بهذه الخفايا فالأرجح أنّهم رأوْا فيها فذلكةَ الضّيفِ.
ولكنّ المفاجأة الحقيقيّة تمثّلتْ في اِقتحام السّيدة مديرة الإذاعة الدّوليّة الأستيديو لتُكذِّبَ المعلومة التي أوردها بنديرمان وتزعم أنّ سبب تغيير عنوان الحصّة هو تغيير الشّبكة الصّيفيّة. ولم يَخْلُ تدخّلها من حدّةٍ وتشنُّجٍ واجهها الضّيفُ بكثيرٍ من السّخرية والهُزء كعادتهِ. وأُسجِّلُ هنا أنّني لم أُكذّبْ السّيدة المديرة (وقد كانت بالفعل تكذب على المباشرِ) ولم أطردها من الأستيديو رغم اقترافها لخطإ فادح بدخولها دون إذنٍ منّي, فهي لم تحترم الصّحفيّة صاحبة البرنامج ودفعتها نرجسيتها إلى خرق قواعد المهنة وأخلاقياتها والتّصرّف كما لو كانت الحاكمة بأمرِها ذات الصّلاحيات غير المحدودة.
والخلاصة هنا أنّها ،على المباشر وأمام الضّيف وعلى مسمعٍ من الجميعِ ، اِعتدتْ اِعتِداءً واضِحًا على صحفي أثناء أداء مهمّته.
نعم قد يكون لها رأي أو نقد أو لوم أو غير ذلك. ولكن لهذا كلّه إجراءاته وأساليبه ووسائله. لقد أخطأت مديرة الإذاعة الدّوليّة وكفى. ولا عيب ربّما في الخطإ فهي مبتدئة في المسؤوليّة ولم تتخلّص بعدُ من ذّهنيّة غطرسة الإداريين على الصحفيين. ولكنّ الاعتذار للصّحفيّة صاحبة البرنامج كان يمكن أن يحلّ الإشكالَ.
والأدهى، لقلّة الخبرة بالتسيير الديمقراطيّ التشاركيّ ربّما، أنّها أمعنتْ في الخطإ واِستغلّتْ موقعها الإداري لتقترفَ تَبَعًا لذلك خطأيْنِ آخريْن لا يَقِلاَّنِ خطورةً.
فبعد أنْ فهمتْ أنّها أساءت اِستخدام سلطتِها باقتحامِها الأستيديو عليَّ وعلى ضيفي قامت بصنصرة "البودكست" (تسجيل الحصّة) وعدم نشره في بوّابة الإذاعة في الرّكن المخصّص لـ"كافي نوار". وقد راسلتُ السيد المدير العام في الأمر عبر التّسلسل الإداري (أي بالمرور بالسيدة المديرة) و مازلت أنتظر الإجابة التي قد تأتي و قد لا تأتي.
وكلّ رجائي أن يقعَ الإفراج عن التّسجيل المذكور حتى يعلم النّاس جميعا من المخطئ : الصّحفية التي لم تكذّب مديرتها على المباشر ولم تطردها أَمْ بنديرمان الذي يسخر من كلّ شيء وانطلق من معلومة صحيحة كذّبتها المديرة زيفا وبهتانا أمِ المديرة المحترمة الموكول إليها حماية حرّية التّعبير والحفاظ على أخلاقيات المهنة ؟
وإمعانا في التّشفّي من الصّحفية و برنامجها النّاجح قامت جهة مَّا مجهولة (!) ظاهريًّا معروفة دون عناء كبير بفسخِ الحساب الشّخصي لنادية الهداوي من منظومة تقنية تخزّن فيها الأغاني التي يختارها الصّحفي أو المنشّط لحصّته. ومن الصُّدَفِ العجيبة أنّني اِكتشفتُ ذلك أمام ضيفي في حصّة يوم 27 جوان 2012 القاضي الفاضل مختار اليحياوي وكان الحوارُ حول "الهيئة الوقتيّة لحماية المعطيات الشّخصيّة" (!). فراسلت السيد المدير العام عبر التّسلسل الإداري مرّة أخرى في المسألة و مازلت أنتظر الإجابة التي قد تأتي وقد لا تأتي.
هل كان إنذارًا غير مباشر بإيقاف الحصّة و إلغاء البرنامج ؟ لا أحب الهلوسات والبارانويا و لكن ما سيأتي من أحداث أكّد ذلك.
و الحقيقة أنّ الإجابة الوحيدة التي وصلتنى من السيد المدير العام كانت يوم 06 جويلية 2012 على الساعة الثامنة صباحًا أي قُبَيِلَ بداية حصّة "كافي نوار" بنصفِ ساعة بعد أن غيّرت المديرة عنوانها إلى "ضيف الأخبار" دون اِستشارتي ودون إعلامي إذ اكتشفت العنوان مع المستمعينَ في بداية حصّة.
ويا للحظ العاثر ! كانت الضّيفة أمّ زياد وقد شهدتْ على ما جرى .أردْتها في حصّتي أن تتحدّثَ عن أخلاقيات الصّحافة وأخلاقيات العمل السّياسي. فإذا بها ترى بأمّ عينها كيف يُهَانُ الصّحفي بسياسة إعلامية مرتجلة تتحكّم فيها الأهواء والنرجسيّات المتعاظمة لا القوانين وتنتهك حرمته بممارسات بالية موروثة تؤكّد لنا أنّ المؤسّسات الإعلامية العموميّة تعيش خطرًا فعليًّا لأنّها عجزتْ عن معالجة أمراضِها المزمنة.
لا أحتاج إلى إطالة في المسالة. فالخطأ واضح سجّله عدل منفّذ في اِنتظار أن يقول القضاء كلمته : لقد حُرِمْتُ منَ العمل بطريقةٍ مُهِينَة و مُنِعْتُ من دخولِ مؤسّسة عموميّة أشتغل فيها دون إعلامٍ أوِ إنذارٍ ودون أيّ إجراء عقابي أو اِستجواب أو غير ذلك من الإجراءات القانونية.إنّه ببساطة إيقاف عن العمل لا يحترم قانون الشغل.
هذا ما وقع عموما أما التفاصيل فكثيرة: تفاصيل تطفو على السّطح لتدلّ على وضعية مزرية يُخْترَقُ فيها القانون وتُنْتَهَكُ حريّة الصّحفي و تُدَاسُ أخلاقيات المهنة.
و لئن كنت ضحيّة هذه الممارسات البائسة فإنّ أسبابها أهمّ من شخصي و علاجها الجذري ضرورة عاجلة لتحقيق الانتقال الإعلامي المنشود.
لقد اِشتغلتُ في جريدة "لو رونوفو" و عانيْتُ منها ، رغم اِحتمائي بالصّفحات الثّقافيّة واِبتعادي عن الشّأن السّياسي ، من سيناريوهات التّسلّط و الاعتداء على الحرّيات الصّحفية والحرمان من الحقوق و الإقصاء و الضّغط. وحين دخلت إذاعة تونس الدّولية واخترت الإعلام العمومي رغم إغراءات الإعلام الخاصّ والعروض العديدة التي تلقّيتها، توهّمتُ أنّ آليات الاستبداد داخل المؤسّسة الإعلامية بدأت تتفكّك و حلمتُ بإعلامٍ نزيهٍ موضوعيٍّ حِرَفيٍّ يقدّم للمواطنين خدمة من طراز رفيع. ولكن يبدو أنّ الطّريق مازالت طويلة وأنّ عبد الوهاب عبد الله قد عشّش وفرّخ و مازالت تعليماته تهيمن على بعض المسؤولين وأشباه المسؤولين وعقليته تسيّرهم وأساليبه التي خبرها الإعلاميّون تلهمهم أخبث الوسائل لإفشال الانتقال الإعلامي.
ما العمل؟
أترك للهيكل النقابي للصحفيّين ولنقيبتهم شخصيّا أمر معالجة هذا الملفّ بما يرونه صالحا، سأعلم أهل المهنة والمستمعين والرأي العام والمجتمع المدني والمدافعين عن الحريات بما وقع ، سأحتفظ بحقّي في الردّ القانوني على الخروقات والتجاوزات ولكنّني ،في الأثناء، سأواصل التّعبير عن رفضي للاعتباطية والتعسّف وتمسكي بحقوق الصحفيّ وسخطي على ورثة عبد الوهاب عبد الله و أبنائه المدلّلين, ففي إذاعة تونس الدّوليّة ، كما هو الحال في وسائل إعلام أخرى ، يكافح زملاء شبّان ومن هم أكبر منهم سنًّا كفاحًا مريرًا حتى يُرْجِعوا إلى هذه المهنة شرفَها المهدورَ. .إنّها معركة نبيلة جديرة بأن تخاض.
نادية الهدّاوي
صحفيّة بـ" إذاعة تونس الدوليّة"
جريدة المغرب, 14/07/2012
4 commentaires:
أرجو أن يكون لتضامني المتواضع بعض المساندة لك أختي الصحفية كما أرجو أن يقول القضاء كلمته في هذا الإشكال الذي لا ينذر بخير. لعن الله الكراسي و سلطانها المقيت على من يجلس عليها.
شكرا على المساندة!
de tout coeur avec toi Nadia. C'est à ton honneur de ne pas te laisser faire... on est avec toi.
Merci Sarhane!
Enregistrer un commentaire