mercredi 10 avril 2013

رسالة أبو حيان التوحيدي في الغربة والغريب

     .
سألتني رفق الله بك ، وعطف على قلبك أن أذكر لك الغريب ومحنه ، وأصف لك الغربة وعجائبها ، وأمّر في أضعاف ذلك بأسرار لطيفة ومعان شريفة ، إما مُعرضّاً ،وأما مُصرًحاً ، وأما مُبعّداً ،وإما مقرّباً . فكنت على أن إجيبك الى ذلك . ثم إني وجدت في حالي شاغلاً عنك ، وحائلاً دونك ، ومُفرّقاً بيني وبينك . وكيف أخفضُ الكلام الآن وأرفَع ، ما الذي أقول وأصنع ، وبماذا أصبر ، وعلى ماذا أجزع ؟ وعلى العلات التي وصفتها والقوارف التي سترتها أقول :

    إنَّ الغريب بحيث ماحطت ركائبه ذليل
    ويد الغريب قصيرةُ ولسانه أبداً غريب
    والناس ينصرُ بعضهم بعضاً وناصره قليل

    وقال آخر:

    وما جزعاً من خشية البين أَخْضَلَتْ دموعي ، لكنَّ الغريبَ غريبُ

    يا هذا ! هذا وصفُ غريب نأى عن وطنٍ بنى بالماء والطين ، وبَعُد عن أَلأّف له عهدهم الخشونة واللين ، ولعله عاقرهم الكأس بين الغُدران والرياض ، واجتلى بعينه محاسن الحَدَق المراض ، ثم إن كان عاقبة ذلك كله إلى الذهاب والانقراض ، فأين أنت من قريب قد طالت غربته في وطنه ، وقلّ حظه ونصيبه من حبيبه وسكنه ؟! وأين أنت من غريب لاسبيل له إلى الأوطان ، ولا طاقة به على الاستيطان ؟! قد علاه الشحوب وهوفي كِنّ ، وغلبه الحزن صار كأنه شَنُّ . إن نطق نطق حزنان منقطعا ، وإن سكت سكت حيرانا مرتدعا ، وإن قرب قرب خاضعاً ، وإن بَعُدَ بعد خاشعاً ، وإن ظهر ظهر ذليلاً ، وإن توارى توارى عليلاً ، وإن طلب طلب اليأسُ لاغالبُ عليه ، وإن أمسك أمسك والبلاء قاصد إليه ، وإن أصبح أصبح حائل اللون من وساوس الفِكْر ، وإن أمسى أمسى مُنْتَهَبَ السر من هواتك السَّتْر ، وإن قال قال هائباً ، وإن سكت سكت خائباً ، وقد أكله الخمول ، ومصه الذبول ، وحالفه النحول ، لايتمنى الإ على بعض بني جنسه ، حتى يفضي إليه بكامنات نفسة ، ويتعلّل برؤيه طلعته ، ويتذكر لمشاهدته قديم لوعته ، فينثر الدموع على صحن خده ، طالباً للراحة من كده
    وقد قيل : الغريب من جفاه الحبيب ، وأنا أقول : بل الغريب من واصله الحبيب ، بل الغريب من تغافل عنه الرقيب ، بل الغريب من حاباه الشريب، بل الغريب من نودى من قريب ، بل الغريب من هو في غربته غريب ، بل الغريب من ليس له نسيب ، بل الغريب من ليس له من الحق نصيب . فإن كان هذا صحيحاً ، فتعال حتى نبكي على حال أحدثت هذ النَفْوة ، وأورثت هذه الجفوة :

    لعَّل انحدار الدمع يعقب راحةً من الوجد أو يشفي نجى َّ البلابل



    يا هذا ! الغريبُ من غربت شمسُ جماله ، واغترب عن حبيبة وعذّاله ، وأَغْرَبَ في أقواله وأفعاله ، وغَرَّب في إدباره وإقباله ، وأستغرب في طِمِره وسرباله .

    يا هذا ! الغريب من نطق وصفُه بالمحنة بعد المحنة ، ودل عنوانه على الفتنة عقب الفتنة ، وبانت حقيقته فيه في الفينة حَدّ الفينة . الغريب من إن حضر كان غائباً ، وإن غاب كان حاضراً .الغريب من إن رايته لم تعرفه ، وإن لم تره لم تستعرفه ، أما سمعت القائل :

    بَمَ التعلُّل ؟!لا أهلٌ ولا زمن ولانديمٌ ، ولا كأسٌ ، ولا سكَنٌ

    هذا وصفُ رجل لحقته الغربة ، فتمنى أهلاً يأنس بهم ، ووطناً يأوى إليه ، ونديماً يَُحلُّ عُقَد سَّره معه ، وسكناً ينتشى منها ، وسكناً يتوادع عنده . فأما وصف الغريب الذي اكتنفته الأحزان من كل جانب ، واشتملت عليه الأجان من كل حاضر وغائب ، وتحكمت فيه الأيام من كل جانب وذاهب ، واستغرقته الحسرات على كل فائت وآئِب ، وشتّته الزمان والمكان بين كل ثقة ورائب ، وفي الجملة ، أتت عليه أحكام المصائب والنوائب ، وحطته بأيدي العواتب عن المراتب ، فوصفُ يخْفي دونه القلم ، ويفني من ورائه القرطاس ، ويشل عن بجسه اللفظ ، لأنه وصف الغريب الذي لا اسم له فيذكر ، ولا رسم له فيشهر ، ولا طي له فينشر ، ولاعذرله فيعذر ، ولاذنب له فيغفر ، ولاعيب عنده فيستر .

    هذا غريب لم يتزحزح عن مَسِقْط رأسه ، ولم يتزعزع عن مَهَبَّ أنفاسه .وأغرب الغُرَباء من صار غريباً في وطنه ، وأبعد البُعداء من كان بعيداً في محل قربه ، لأن غاية المجهود أن يسلو عن الموجود ، ويغمض عن المشهود ، ويقصى عن المعهود ، ليجد من يغنيه عن هذا كله بعطاء ممدود ، ورِفْدٍ مرفود ، وركن موطود ، وحد غير محدود .
    ياهذا ! الغريب من إذا ذكر الحقَّ هُجِر ، وإذا دعا الى الحق زُجِر . الغريب من إذا أَسْنَدَ كُذّب ، وإذا تطاهر عُذّب . الغريب من إذا امتار لم يْمرِ ، وإذا قَعَد لم ُيَزرْ .يا رحمتنا للغريب ! طال سفره من غير قدوم ، وطال بلاؤه من غير ذنب ، وأشتد ضَرَرُه من غير تقصير ، وعظم عناؤه من غير جدوى !
    الغريب من إذا قال لم يسمعوا قوله ، وإذا رأوه لم يدوروا حوله . الغريب إذا تنفس أحرقه الأسى والأسف ، وإن كتم أكمده الحزن واللّهَف . الغريب من إذا أقبل لم يُسَّمع له ، وإذا أعرض لم يسئل عنه . الغريب من إذا سأل لم يعط ، وإن سكت لم يُبْدَأ . الغريب إذا عطس لم يُشَمَّت ، وإن مرض لم يُفتقّد . الغريب من إذ زار أغْلق دونه الباب ، وإن استأذن لم يُرفع له الحجاب.

    الغريب مَن إذا نادى لم يُجبْ . اللهم إنّا قد أصبحنا غرباء بين خلقك ، فآنسنا في فِنائك ، اللهم وأمسينا مهجورين عندهم ، فِصلْنا بحبالك

    ثم يقول : أيها السائل عن الغريب ومحنته ! إلى ههنا بلغ وصفي في الورقات. فإن استزدتَّ زِدْتُ ، وإن اكتفيتَ اكتفيتُ ، والله أسألُ لك تسديداً في المبالغة ،ولي تأييداً في الجواب ، لنتلاقى على نعمته ، ناطقين بحكمته ، سابقين الى كلمته .

    يا هذا ! الغريب في الجملة من كله حرقة ، وبعضه فُرْقة ، وليلُه أَسَف ، ونهارهُ لهف ، وغَدَاؤه حَزَن ، وعشاؤه شَجَن ، وآراؤه ظنن ، وجميعه فِتن ، ومفَرِقه مَحِن ، وسُّرِه عَلَن ، وخوفه وطن .

    يا هذا ! أنت الغريب في معناك

Aucun commentaire: