mardi 30 octobre 2012

بيان الكرمل : نلم فتات الضوء ; محمود درويش



 في هذا الانفجار المفتوح على االإحتمالات، االإنفجار الذي يهز المجتمعات العربية يرتفع
السؤال عن ثقافة الأزمة.
ً الأزمة أيضا، تصوغ ثقافتها. وثقافة الأزمة هي محصلة تاريخية لمعاناة مرحلة كاملة، مرحلة
تختلط فيها الحروب بالحروب الأهلية، والحداثة بالإغتراب والأصالة بالسلفية. ويتم الإنفصال
فيها بين المسيطر والمسيطر عليه.
  ولأنها  كذلك،  فهي مرحلة تختلط فيها النهايات بالبدايات. في  ثقافة  األزمة، خيارات
ورؤى متشابكة بعضها يعلن الهرب من مواجهة احلاضر عبر اللجوء إلى صياغات املاضي، يعلن
العقلانية ويرتهن للغيب، يغرقنا في جنون طوائف امللوك وحروب ملوك الطوائف ويدور في
الفراغ.
 وفيها، نعلن أن الأشياء يجب أن تمضي إلى نهاياتها وأن على المنهار أن ينهار، وأن الإندفاع
إلى إعلان موت الثقافة المسيطرة والعاجزة عن الإحتفاظ بسيطرتها هو الطريق الوحيد لتحديد
الأزمة والقدرة على القول أنها ليست أزمتنا، وهي المحاولة الخلاقة للإمساك بطرف الأفق.
خيارنا الوحيد هو الإنتماء إلى إلإبداع في الثورة والثورة في الإبداع.
هو أن نحاول لملمة فتات الضوء المختلط بالوحل داخل مرآة تكون إطارا للحرية وأفقا لا تحده
المسبقات الجاهزة.
الإنتماء إلى الإبداع والثورة هو المغامرة، لأنه انتماء إلى غد يتأسس، وفي المغامرة تكتشف أن
أرض خياراتنا لا تكون إلا أرض حرية.
والثقافة الجديدة هي إعادة اكتشاف الواقع العربي وكشفه والإسهام في تغييره. اكتشاف الواقع
ً لا يعني أن نعكسه، فالمرآة التي نختار نطمح أن لا تكون آلة انعكاس محايدة بل أرضا لحوار
ً االاحتمالات الجديدة، وعلى هذه الأرض يكون المثقف المبدع كاتبا منشئا ً، كاتبا يحطم صورة
النص المستعاد داخل هرم القمع، حيث تعاد صياغة اللغة المسيطرة أو لغة المسيطرين على اللحظة
العابرة في لهجة االاجترار. بل يكون مساهمتها في إنشاء الجديد.  والجديد هو الأصوات التي
تتعدد وتتجاوز في حوار دميقراطي حر.
والثقافة هي صراع وأرض صراع.
إنها صراع، لأنها تكتب لغة الصراعات والتناقضات، ولأنها لا تستطيع أن تكتب نفسها إلا
داخل الصراعات والتناقضات اليومية.
 وهي أرض صراع، لأنها لا تستطيع إلا أن تنحاز إلى نفسها وإلى الذين يشكلون مصدرها،
ً وبهم يتشكل مستقبلها.  وهي لذلك نص مفتوح.  جاهز لم يجهز بعد.  بداية تبدأ دائما.  ولذلك
ً أيضا فهي أرض لصراعها مع نفسها.
والثقافة هي حرية وفعل حرية.  لا تنمو إلا في الحرية واا تتأكد إلا حيي تقاتل من أجل الحرية. 
ً والفعل كان البداية، وهو البداية التي نصنعها دائما أو نسقط ونموت.  وفعل الحرية يعني إعلان
القطيعة النهائية مع تلك العلاقة الملتبسة بيي ثقافة السلطة وسلطة الثقافة.  كأن المعارضة لا تنهض
إلا على أرض السلطة، ولا تخاطب إلا الرقيب الذي يجلس في مواجهتها أو في داخلها!

 والقطيعة هي اختيار أرض جديدة.  إعلان الانفصال النهائي والرفض المطلق لهذا الالتباس
المريب، والانتماء إلى الفعل.  صياغة معادل متشابك مع آلام وأحلام الذين تصنع لغتهم لغة
الجديد الذي يولد.  وتساهم من خاللها في إبداع رؤية مفتوحة ال يحدها الخوف ولا يؤطرها
الوهم هنا تدخل الكتابة مغامرتها مع نفسها.  تسقط كل الأوهام التي علقت بها،  وتبدأ مغامرتها
مع أرضها الخاصة التي تؤسسها مع بناء ثقافة المعارضة الجذرية.
 والثقافة هي تجربة تجريب دائم.  إنها ثقافة تجريبية – طليعية، أو لا تكون.  ففي زمن هذا
ً الإنهيار الجارف، لا يكون الفعل إلا بحثا، ولا يكون الإبداع إلا تجريبا وتجربة.  والتجريب لا
يتأسس في فراغ، إنه يتأسس في التجربة الملموسة نفسها وكجزء منها.  فحين تتدحرج المرحلة،
لا يستطيع أي فعل أن يتكون إلا بالعلاقة مع التجربة الملموسة، ولا تستطيع أية نظرية أن تتأسس
إال كتلخيص للتجربة التاريخية.
 فالإبداع الحقيقي هو الذي يبدأ من هذا الآن، ويرسم من الحاضر بكل تناقضاته أفق المستقبل،
ويؤسس لنضج ثقافي آن لنا أن نصل إليه، وآن لنا أن نسعى إلى إعلانه، باعتبار أنه هو هذا الضوء
في فتات وحل زمننا الذي نعيش.
والثقافة هي رؤية نقدية، هي نقد جذري وبأدوات جذرية صنعتها تجربتنا التاريخية وتجارب
الشعوب الأخرى، نقد للثقافة المسيطرة ولنقدها المسيطر.  نقد لحياتنا ولتعبيراتها المتعددة.  نقد
السلطة.
والنقد يبحث عن الإنسان الذي يصنع تاريخه حني يستطيع أن ينقد هذا التاريخ والنقد بحث
عن أنفسنا وكتاباتنا وآفاق المحتمل الذي نسعى إلى بلوغه.
ً والنقد ال يكون إال داخل الرؤيا، داخل أن يكون الكاتب رائيا ً  فيرى، وشاهدا فيشهد.  والرائي
– الشاهد ال يعبر عن الذي يراه، بل يكونه، ال يعكس املرحلة، بل يساهم في تغييرها وصياغة
ً مستقبلها، ال يكون محايدا، لأن المحايد هو الوجه الآخر البارد لسلطة القمع.
مجلة جديدة، نعم.
جديدة لأنها لا تنطلق من الفراغ، بل من تراكم التجارب اإلبداعية العربية.
جديدة، نعم.
لأنها تسعى إلى الجديد، وجديدها ليس جديدها، بل هو جديد الثقافة العربية، جديد هذا 252
الصوت الذي لم يختنق، وهذا الوعي القادر على أن يلملم شتاته وينهض، ويؤسس الطار
ً صغير، قد يكون حاجة، وقد يكون إعالنا عن احلاجة إلى الصراخ املدوي.
ً لذلك، يكون جديدها، هو قدرتها، على أن تكون أرضا ً  للحوار والتعدد.  أرضا للثقافة
وعالقة كتابة الثورة بثورة الكتابة التي تبدأ من جديد.
ً وهذا الصوت ليس جبال.
الكرمل جبل يقع في فلسطني. وهذه ”الكرمل“ ً ليست إال اسما واالسم ال يدل على الشيء
ً إذا لم يكن فعال باجتاهه.
واالسم ال يدل إال على رغبتنا في أن نساهم في تأسيس فلسطني الرؤيا، هذه الرؤيا املدهشة
التي تتشكل من مزيج الدم والتوقعات واخليبة، من هذا األمل الفذ الذي يولد من جديد.
مجلة جديدة، نعم.
رسالة جديدة، نعم وال.
هذا الانهيار الشامل ليس انهيارنا، ليس انهيار اإلبداع واألمل، وال هو انهيار فلسطني الصراع
والمعنى والمستقبل.
الانهيارات علنية، والبديل يتشكل من األزمة والمجهول الذي يكور قبضاته ويتقدم الفتتاح
مرحلته وامتلاكها حول اسم فلسطيني التي تتفجر إشارات وكلمة سر لم تعد سرية …
ً هذا الصوت ليس جبال،
ً ولكن يطمح إلى أن ينحت طريقا في حجر الطريق إلى الجبل.

Aucun commentaire: